الجمعة، 24 ديسمبر 2010

ظــلال آدم والمنيـرفا يتنسمـا الضـوء

بقلم: رشا ماهر البدري

توقفت لأفكر في حياتي، فوجدت أنني أدرس في المجال الذي لا أحبه، وسأتخرج بشهادة في مجال لن أعمل به مطلقًا, فقررت ترك الدراسة رغم اعتراضات من حولي -ممن يرون أن المستقبل هو شهادة علي الحائط أيًا كانت, وأنها وضع إجتماعي مطلوب تحقيقه- وتذكرت أنى كنت أهوى الرسم منذ صغري، وقد تعلمت الرسم من أخي الأكبر قبل أن أتعلم القراءة والكتابة، ففكرت في الانضمام لكلية الفنون الجميلة، ثم سرعان ما غلبتني طبيعتي التي تعشق الحرية والفكر الحر، فدرست الفن التشكيلي ذاتيًا... أخذت أشتري الكتب المتخصصة وأطلع عليها بنهمٍ. أقرأ في بدايات وتاريخ الفن التشكيلي وأسسه، فذبت بين اللوحات وعبير الفنانين العظماء. كما ساعدني الانترنت كثيرًا في الوصول إلى التفاصيل الزاخمة والتطورات المذهلة."

حوار دار بيني وشاب صادق ذو رؤية حكيمة وحس مرهف، يخلق بريشته عالم متجدد الرسالات، ويُنهض الأفكار من مرقدها.. من رمادها ليجسدها نارًا تطاير للسماء. شاب تتماس رؤياه مع أنسي الحاج في ديوان الوليمة حينما قال: "بين الحطام فتحت عيني، فأبصرت نورًا كوهج النَمِر، وبَدَل أن أستسلم للرقاد تحت الحجارة، نهضت، ورحتُ ألمع على رؤوس الأعشاب...". إنه الفنان التشكيلي، مصمم الجرافيكس، المصري: "عبدالرحمن الصواف". أخرج/ أنتج لنا العديد من اللوحات تتسم في مجملها بالحوار/الصراع بين: الخير والشر، الغموض والوضوح، القوة/الوحشية والضعف/ الإئتناس، الحياة والموت، السماء والأرض، الواقع والأسطورة...

فنجد في لوحة "الطريق إلى الجنة": تدرج الألوان بين البني والأخضر والأصفر، لرجل يجلس على مقعد مرتخيًا ساهبًا يعلوه شبح الموت متشحًا بالسواد.. وكأن روحه صعدت من جسده توًا، على حين غرة منه.. وأسفل يده تفاحة مقضومة قضمة على هيئة قلب، رمزًا لإغتوائه وفتنته بالدنيا، فجاءت روحه/ظله سوداء تصعد سلمها في تردد نحو العلا... فالطريق إلى الجنة محفوف بالمخاطر.


وفي لوحته "بين الحياة والموت 30X 40سم": نجد إنسان وديع حزين نصفه الأدنى شجرة... لحاء شجرة تمتد جذورها في الأرض لينشب منها ميلاد يد جديدة، ونصفه الأعلى جسده الذي يحمل قلبه في يده اليسرى ويقف فوقه صقر الجير-ذلك الطائر الجميل الشبيه بالحمامة في وداعتها، أندر وأجرأ وأشرش أنواع الصقور- وتوضع ساعة مكان القلب بصدره، ويده اليمنى تتحول ببطىء لفرع شجرة تفاح، يعلوه صقر الجير أيضًا!. بالإضافة لباب مغلق لونه لون اللحاء، مثبت بالأرض على مرمى ليس ببعيد عن الإنسان الشجرة.. مثبت على نحو مائل ليتصل بالسحب، وكأنه نافذة الوصول. فبين الحياة والموت "الزمن" المحسوب علينا.


أما لوحة "قناع لألف شبح 70X 100سم"، فتوحي لنا بالظلال الآدمية اللامنتهية.. لوحة بها قناع موحش دون روح، لمسخ ذو شعر كثيف وملامح ضخمة، تتمركز جبهته ريشة ما تأخذ لونه الأحمر القاني.. قناع يجلس في قلب كرسي ضئيل الحجم، مصنوع من خشب ما يُشبه العظام، وينعكس ظلهما على نحو مختلف تمامًا لما نراه في الأصل! فنرى إنحناءات الوجه والريشة على هيئة تفاحة... فماذا يقول لنا الصواف/ آدم/ الإنسان؟؟ إنه الإغواء الموحش على كرسي الاعتراف تعلوه ريشة المسؤولية.


ولوحته "وجهان لكل روح 70X 100سم": رجل وجهه باسم يشبه قناع بطل الفيلم الأمريكي Vendetta أو "الثأر"، يرتدي بنطال أخضر، وقميص أصفر، وجاكت أسود، وبيبيون أحمر عريض، وقبعة سوداء، داخل إطار مفرغ يتخذ رسم المُعيّن... ملابس وملامح تجعله أشبه بالبلياتشو، ملامح لرجل يخفى وراءه -في يده- قناع آخر لسيدة مفزوعة، مع إختلاف إتجاه موضع قدماه. وكأن الصواف يريد أن يعبر لنا عن إختلاف الأوجه للروح الواحدة مع نسب متساوية/ متطابقة من الأحداث. الإطار يرمز لنافذة الرؤية المتساوية الأضلع والمشتركة القاعدة، فكلانا آدم وحواء، إيزيس وأوزوريس... نواجه المصير ذاته، بل والفرد ذاته يحمل سمات النوعين "الذكر والأنثي".


ولوحة "النبـي 70X 100سم"، واضحة البيان من الوهلة الأولى... جسد لإنسان/ نبي ممزق يتدفق دمه من جراء رمح كبير يرشق في ظهره لينفد في معدته تجاه السماء الملبدة بالغيوم. جسد معلق بين السماء والأرض يقع من يديه كتابه.. رسالته المكلف بها.. رسالته المهترئة والمشعة نورًا. جسد يُدق بجبهته طوق من شوك زيادة في إيلامه وتأكيدًا لمعاناته، وكأنه المسيح عيسى بن مريم.
تبدأ اللوحة بنهر يتكون من ذرات الدماء المتدفقة من جسد النبي المرتفع للسماء، لتنتهي بتقشع الغيوم شيئًا فشيئًا وظهور نور أقصى اليمين يتوازى مع نور كتابه المفتوح... غيوم رمادية شديدة الكثافة تمتد رأسيًا وأفقيًا لتوضح صعوبة وقسوة الطريق، في أسلوب منمق يراعي التفاصيل الدقيقة وقسمات الألم.


وفي لوحة "شِبه رجل 70x 100سم"، نجد نوع آخر من البشر، أو لنقل كائن ذو طبيعة مزدوجة.. قمة الخير وقمة الشر –أبراكسس Abraxas- رجل مفتول العضلات رأسه رأس ديك.. تذكرني بقصيدة في حارتنا ديك لنزار قباني: "في حارتنا ديك، يصرخ عند الفجر، كشمشون الجبار، يطلق لحيته الحمرا، ويقمعنا ليلًا ونهارًا، يخطب فينا.. ينشد فينا... يزني فينا؛ فهو الواحد.. وهو الخالد، وهو المقتدر الجبار...". رؤية تمزج بين القدرات الخارقة (الشيطانية/ التعاويذ/ الجبروت/ الإله المصري القديم...) والإنسان بفَصّيه (الخير والشر/ الروح والجسد... إلخ).

إن الهبة تظهر بمفرداتها في شتى لوحاته فتؤكد جمال موهبته، المعبر عنها بحركة تشكيلية جديدة تتواكب مع تطور العصر. ألا وهى الرسم الرقمي Digital Painting، ذلك الفن الذي لم يأخذ حظه من المعرفة والانتشار بمصر حتى الآن، والذي قد يُعرف على نحو خاطيء بفن التصميم الرقمي Digital Design Art. هذا بالإضافة لصقل موهبته بدراسة فن الجرافيك باشتراكه في دورات عالمية في التصميم قدمها "كولين سميث" الحائز على جائزة أفضل مصمم فوتوشوب من شركة أدوبي المصنعة للبرنامج نفسه. ومن ثم استطاع إختزال موهبته –بداية- في تصميم أغلفة الكتب على غرار الفنانين الذين أثروا حياتنا برسوماتهم على أغلفة المجلات والكتب مثل محي الدين اللباد وجمال قطب.. وغيرهم ممن تأثر بهم الصواف فحلم بصنع بصمته وعلامته المميزة في هذا الفن الجميل.

لقد انغمس الإنسان في لعبة الألوان إلى حدِّ أن الديانات القديمة اعتبرت اللون رمزًا مقدسًا، حتى أصبح الأبيض رمزًا للعفَّة والطهر والنقاء، والأسود للحزن وللموت، البُني للغموض والمثابرة والأرض، والأصفر للخبث والحسد والاحتضار، والأحمر للعنف، والأزرق للوفاء وحب الطبيعة، والأخضر للرجاء والأمل.. إلخ، وقد تأثر الصواف كثيرًا بهذا التصنيف في مجمل أعماله مع غلبة الأحمر والأسود والأخضر والأصفر!
والمنيرفا/ أثينا/ إيزيس هي ربة الحكمة والقوة، وربة الحرب والملاحة، حامية المدينة... تتخذ دورها المقدس –على نحو غامض- بمآزرة آدم أبو البشرية، كحواء في ثوب جديد بين الأسطورة والواقع في ظلال عالم عبد الرحمن الصواف الذي يتسم بالتنوع والثراء للرؤية الواحدة.

هكذا يكون التعلم ... هكذا تكون العزيمة التي تفرض علينا التوجه السليم نحو رؤية الحق والخير والجمال، والتي سجلت لنا روح فنية متميزة سنرى معرضها الرقمي في القريب العاجل.


****